شعراء حمص في المهجر
نسيب عريضة
1888 ـ 1946
المهندس جورج فارس رباحية
هونسيب بن أسعد عريضة والدته سليمة حداد وُلِدَ في حمص سنة 1888 ونشأ فيها وتلقّى علومه الأولية في المدرسة الأرثوذكسية , وبعدها في دار المعلمين الروسية في الناصرة حيث تمكّن من أصول اللغتين العربية والروسية تمكّناً أتاح له فيما بعد مطالعاته الواسعة في آداب اللغتين . وكان أصحابه يلقّبونه بدائرة المعارف . وتعرّف في الناصرة إلى التلميذ ميخائيل نعيمة فتصادقا وتحابّا, وبعد نيله الشهادة في دار المعلّمين هاجر إلى نيويورك عام 1905 . تلك المطالعات كانت تشحذ مواهبه الغزيرة وتدفع به إلى حياة الحٍبر والقرطاس والقلم بعيداً عن المتاجر والمصانع التي كان قد لجأ إليها لتحصيل رزقه . وفي عام 1912 أسّس مطبعة ( الأتلنتيك ) وأصدر مجلة ( الفنون) التي راحت تحمل لواء التجديد في الأدب العربي , تغذيها أقلام فتيّة قويّة ويتعهّدها من حيث الإخراج ذوق مسرف في الأناقة والترتيب , ولاقت المجلة إقبالا ًكبيراً , لكنّ الحرب العالمية الأولى من جهة وضيق ذات اليد من جهة أخرى قضيا عليهاقبل أن يكتمل العام الأول من عمرها. فكان موتها أكبر صدمة تلقّاها نسيب عريضة فما فارقته أوجاعها حتى فارق كل أوجاعه الأرضيّة. وأعاد شاعرنا الكرّة فجددّ حياة ( الفنون ) بمساعدة بعض الأصدقاء عام 1916 ولكنّها توقّفت نهائياً عن الصدور ولمّا تكمّل العامين من عمرها الثاني .
وأسّس الرابطة القلميّة في نيويورك مع إخوانه أساطين الأدب العربي في المهجر: جبران خليل جبران – ميخائيل نعيمة – ندرة حداد – عبد المسيح حداد – رشيد أيوب – إيليا أبي ماضي – أمين الريحاني – وليم كاتسفيلد .
وإذ انقطع رجاء نسيب عريضة بعودة معشوقته ( الفنون ) إلى الحياة , انصرف عنها إلى هموم الساعة وتدبير شؤون المعيشة , فتزوج بعد الحرب العالمية الأولى من نجيبة حداد شقيقة عبد المسيح حداد صاحب ( السائح ) والشاعر ندرة حداد , فما رزقا أولاداً . كانت نفس نسيب قد سئمت العمل في المتاجر والمصانع , فآثر أن يعيش وأن بالتقتيرعيشة فيها للقلم والحٍبر نصيب . فاشتغل حيناً في تحرير ( السائح ) و ( مرآة الغرب ) و ( الهدى ) ثم في مكتب الأنباء الاميركي إبان الحرب الأخيرة . وكان حزنه على شقيقه سابا المتوفي في ربيع شبابه بُعَيْدَ الحرب العالمية الأولى , ثم مآسيه الروحية والمادية الكثيرة التي عقبت احـتجاب ( الفنون ) قد هدّت جسمه القوي فانتقـل إلى رحمة ربه في مدينة بروكلين يوم الإثنين في 25/ آذار / 1946 .وكان ديوان ( الأرواح الحائرة ) في يد المجلّد عندما لفظ صاحبه أنفاسه . وله ديوان آخر لم يُنشروآثار نثريّة قيّمــة منها قصّتاه البديعتان ( ديك الجن الحمصي ) و ( حديث الصماصمة )و(أسرار البلاط الروسي : رواية ترجمها عن الروسية )حسْبك أن تقرأ قصيدة أوقصيدتين من نظمه لتشْعر أنّك في حضرة شاعر فذ, رحب الخيال , مرهف الحس , رفيع الذوق , خفيف الظل , صافي النبعة , صادق النبرة , فتراه يتنكبّ السبل المطروقة والقوالب المألوفة وترفّع عن كل مبتذل في اللون واللحن والمعنى , فلا يتملّق ولايُماري ولايتصنعّ ولا ُيبرق ولا يُرعد أو يرغي ويُزبد ليهوّل عليك بالضجيج والصخب , بل هو يبثّ شعوره بالحياة بثاًأشبه مايكون برذاذ المطر يتساقط في سكينة الليل على بقاع عطشى فيؤنسها ولايزعجها ويحييها ولا يجر فيهاعلى عكس ما يفعل السيل العارم .
ولم يشذّ نسيب عن إخوانه أعضاء الرابطة القلميّة من حيث شعورهم بغربتين متلازمتين: غربتهم عن الوطن المادي وغربتهم عن الوطن الروحي . ولعلّ الغربة الثانية كانت الأقسى على قلبه . فلاعجب أن تسمع للأسى في شعره أنغاماً شجّية وأن تبصر فيه كل ألوان الحيرة والوحدة والوحشة . ومن أجمل قصائده الوطنيّة: الحنين ( إلى فلسطين ) و( ياحمص ياأم الحجار السود )
وهذه نفحات من بعض قصائده :
1- إلى فلسطين : من وراء البحار ألقاها في حفلة الجامعة العربية في بروكلن سنة 1938 لمناسبة وعد بلفور :
فلسطين من غربــــةٍ موثقةْ ُنراعيك في الكُربةِ المُطـبِقةْ
فتعلو وتهبُطُ منّا الصّـــدورُ ونهفُو وأبصارُنا مُطرِقـــةْ
ومن خلفِ هذا الخضمّ البعيدِ نُحييّكِ بالدَّمـعةِ المُحـــــرقةْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جهادُكِ أورى زِنادَ النفـــوسِ فطارت شرارتُها مُبرقـــةْ
جهادٌ ملأتِ به الخافِقَيـــــــنِ فضاقت به القوّةُ المُرهِقــةْ
وسَطّرتِ آياته في الخلــــودِ بأرواحِ أبنائكِ المُزهَقَــــــةَ
ـــــــ
2- أمام الغـــــــــروب :
رُويدك ِ شمسَ الحيــــــاة ولا تسرعي في الغــــــروبْ !
فما نالَ قلبي ُمنــــــــــــاه وما ذاقَ غيــــرَ الخطــــــوبْ
ــــــــــــ
حَنانيّكَ داعي الرّحيــــلْ أنمضي كــذا مُرغميـــــنْ ؟
ولم نروِ بعـــــدُ الغـليلْ فمهــــــلاً ودَعنا ِلحيـــــنْ
ــــــــــ
أتمضي الحيـاة ســـــدى وما طال فيهـــــا المَقـــــامْ
ولمْ نجتــــــــزْ المُبتـــدا فسرعانَ يأتـــــي الختــــامْ !
ــــــــــــ
3- رباعيّــــات :
شربتُ كأسي أمام نفسـي وقلتُ : يانفسُ ما المَـــرامْ ؟
حياةُ شكَّ ومـوتُ شــــكَّ فلْنغمُـرَ الشـــــكَّ بالمـــــُدامْ
آماُلنا شَعشَـت فغـــــابتْ كالآلِ أبقـى لنــــــــــا الأوامْ
لا بأس . ليس الحيــاةُ الاّ مرحلـــــةٌ بدؤها ختـــــــــامْ
ـــــــ
4- سِـــــيّان :
ســـّيان. أن تُصغــــي للُنصـح أو تُغضـي
يانفــسُ فالآتـــــــــــي مثلُ الـذي يمضـي
ـــــــــــــــــــــــــ
فافعـلْ كما تهـوى ياقلــبُ لاتحــــذَرْ
إن كنـتَ من تبـرٍ ما ضـّرك المصَهرْ
ـــــــــــ
5- يانفْــــسُ :
يانفْسُ , مالكِ والأنيـــــن ؟ تتألّميــــــــن وتؤلِميــــــــــنْ
عذّبــــتِ قلبـي بالحنيــــن وكَتَمْتِــــــهِ ما تقصُــــــــدينْ
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
يا نفْسُ مالكِ في اضطــراب كفريـســةٍ بين الذئــــــــابْ ؟
هلاّ رجَعــــــتِ إلى الصواب وبدلــتِ رَيْبك باليقيــــــــنْ !
ـ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
6- النهــــاية :
رُبَّ ثارٍ ؛
رُبَّ عارٍ ؛
رُبَّ نارٍ ؛
حركـــتْ قلــبَ الجبـــــانْ
كلُّهــا فينـا ولكن لم تحـرّك
ســاكناً الاّ الّلســـــــــــــانْ
ـــــــــــــــــــ
كَفِّنوهُ ؛
وادفنوهُ ؛
أسكنوهُ ؛
هُوَّة اللحد العميق
واذهبوا لاتندبـــوه ,
فهو شعْبٌ ميّـــتٌ ليسَ يفيـــقْ
ـــــــــــــــــــــــ
7- سِفـــر الدّهـــور :
يانديمي انّ بعــــــــــــــــضَ النّــــــــــاسِ ان جُســـــــتَ الأمـــــــــــــــــورْ
ذو ثــــــــــراءٍ يحســـــــــبُ المـــــــــــالَ غنىً وهــــــــــــــو غــــــــــــرورْ
يَملِكُ المــــــــــــــــــــالَ ولكــــــــــــــــن هــو للمــــــــــــــــــالِ أجيــــــــــرْ
دعْكَ منـــــــــــــــه . وأقلــــــــــــــــــــبِ الصفحةَ في سفر الدَّهــــــــــــــورْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
8- أم الحجـــار السّـــود :
حمـــــــــص العـــــــــديّةُ , كلُّنا يهـــــــــــواكِ
ياكعبـةَ الأبطـــــالِ , انّ ثـــــــــــــــــــــــــراكِ
غِمــدٌ لســــــــيفِ الله في مثــــــــــــــــــــــواكِ
ولَكم لنا مــــــن خشْعــــــــةٍ وسجـــــــــــــــودِ
فـــــي هيكـــلِ النَّجـــوى ومن تمجـــــــــــدِ !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يادهـــرُ قد طــالَ البُعــــــــــــــــــــادُ عن الوطــــــــــنْ
هـــلْ عودةٌ تُــــــــــرجى وقد فــــــــــاتَ الظَّعــــــــــنْ
عُـــــدْ بي الى حمــــص ولوحشْـــــــــــــــو الكفـــــــنْ واهتفْ : أتيــــــــــتُ بعـــــــــــاثرٍ مــــــــــــــــــردودِ
واجعــــــــــــلْ ضـــــــــريحي من حجــــارٍ ســـــــودِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
9- علــى قبــري :
اقيموا على قبري من الصّخرِ دميـــــةً بهــا رمز عيشي بعدَ موتي يُعـــــرضُ
يدان بلا جســــمٍ تُمـدّانِ في الفضـــــــا تُمدّانِ من صخــــــــرٍ على القبر يربِضُ
فيُمناهُما مبســوطةٌ تشــــــــحذُ الجَــــدا لتُشبِع جوعَ النفسِ والجـــــــوعُ يرفضُ
ويُسراهُما فيها فــــــــــؤادٌ مــــــضرّجٌ تُقدّمه للنــــــاس , والنــــاسُ تُعـــــرضُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ
وتخليداً لذكراه فقد أطلقت مديرية التربية بحمص إسمه على إحدى الثانويات وأطلق مجلس مدينة حمص اسمه على شارع في حي الحميدية .
وأخيراً وبعد أكثر من 60عاماً على رحيله ,نرفع نداءنا إلى المغتربين وإلى أهالي مدينة إبن الوليد ومسؤوليها لتحقيق أُمنيته ونقل رفاته إلى بلده .
1/3/2004 المهندس جورج فارس رباحية
المصــــــــــادر :
ـــــــــــــــــــــــــــ
1ـ نسيب عريضة : مناهل الأدب العربي 1950
2ـ مجلة جادة الرشاد: حنا خباز 1923
3ـ تاريخ حمص الجزء 2 : منير الخوري عيسى أسعد 1984
4ـ أدبنا وأدباؤنا في المهاجر : جورج صيدح بيروت 1957