أسعد الله أوقات الجميع
سنستكمل الليلة آخر جزء من قصة الرهان ...
عبر كتبك-سيدي-امتطيت قمم الجبال الشاهقة لـ"البروز"و"مونت بلنك".. و اكتحلت عيناي في ذراها بمرأى الشمس يتفتق عنها صدر الأرض..هناك في آخر العالم.. فتسكب إبان غروبها صبابة الذهب تطلي بها السماء و المحيط و رؤوس الجبال..سمعت هناك في الأعالي دوي الرعد.. و رأيت وميض البرق يقدّ الفؤاد الغيوم كسيف عنترة بن شداد .. رأيت غابات خضر و بيادر و حقولاً و جداول و أنهاراً و مدناً...و لمست يداي أطراف أجنحة النوارس المبحرة في خضم السماء .. في كتبك-سيدي-سبرت غور بحار لجّيّة ... صنعت المعجزات أحرقت مدناً عن بكرة أبيها و حررت أقطاراً !
لقد منحتني كتبك الحكمة كل الحكمة ... إن عبقرية الإنسان و حصاد فكره الفذّ قد اختزل الآن في جمجمتي.. و أنا على يقين الآن بأني أفوقكم طرّاً علماً و ثقافة و ذكاء و حكمة ...
على أني الآن أحتقر كل كتبك ..أمقت النعيم الدنيوي و حكمة الإنسان ..فقد أدركت أن كل شيء ما خلا الله باطل ... و أن كل ما بنا من نِعَم و ما لدينا من متع.. ماهو إلا سراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً... أيقنت-سيدي-بأنك مهما كنت جميلاً غنياً حكيماً..فإن يد الموت لاشك ستمتد إليك لتمحوك عن وجه البسيطة..فتتساوى بذلك مع الجرذان النافقة تحت الأرض ... عندها لن ينفعك مال و لابنون إلا من أتى الله بقلب سليم..
تعساً لكم بني آدم ... تحسبون الزيف حقيقة .. و تخالون القبح جمالاً و تستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ...
كم أحتقر ما تمجّدون و خير دليل على ذلك .. هو إنني سأتنازل طائعاً مختاراً عن مبلغ الرهان المتفق عليه ..ذاك الذي طالما حلمت بأنه المفتاح إلى عوالم السعادة و النعيم ..ذلك الذي أمقته الآن فهو لا يساوي في نظري شيئاً .. أجل سأحرم نفسي من حق الحصول عليه إذ أني سأغادر هذا المكان قبيل الموعد المضروب بخمس دقائق ... فأكون بذلك قد خالفت بنود الأتفاقية و يصبح المصرفي في حلُّ ساعتها من دفع المتفق عليه لي ..
عندما أنهى المصرفي قراءة ذلك وضع الورقة بهدوء على المنضدة ثم انحنى فقبّل في حنان رأس الرجل الغريب و انخرط في بكاء عميق قبل أن يغادر الجناح ..
ما أحس في أيّ وقت مضى بازدراء ذاتي كذلك الذي أحس به آنذاك مطلقاً ...حتى يوم مُنيَ بخسارة فادحة في سوق البورصة .. و ما أن دخل بيته حتى استلقى على سريره لكن العذاب و الدموع و الألم لم يسلمه للنوم إلا بعد مضي وقت طويل ...
في صبيحة اليوم التالي جاءه الحارس المسكين يعدو .. و أخبره بأنهم قد بصروا السجين يتسلل من النافذة إلى الحديقة التي لفظته بعد أن عبر بوابتها ..
و هرع المصرفي من فوره مع حارسه إلى غرفة السجين فكتب تقريراً بذلك و لتلافي ماقد ينتشر من إشاعات أخذ ورقة التنازل الخطي للسجين من على المنضدة و إبان عودته أقفل عليها باب خزانته ..
تمت